السيدة عائشة معلِّمة الرجال
هذا الحديث عن السيدة التي أثبتت للدنيا منذ أربعة عشر قرنا ، أن المرأة
يمكن أن تكون أعلم من الرجال ؛ حتى يتعلموا منها ،وأن تكون أرجل من الرجال
؛ حتى يقتدوا بها ، وأن تكون سياسية ، وأن تكون محاربة ، وأن تخلّف في
التاريخ دويّا تتناقل أصداءه العصور .
لم تتخرج في الجامعة ، لم تكن في أيامها الجامعات ، ولكنها كانت ((ولا
تزال كما كانت)) تدرَّس آثارها في كلية الأداب ، كما تدرّس أبلغ النصوص
الأدبية ، وتقرأ فتاواها في كليات الدين ، كما تقرأ الأحاديث النبوية ،
ويبحث أعمالها كل مدرِّس لتاريخ العرب والإسلام .
امرأة ملأت الدنيا وشغلت الناس على مرِّ الدهور .
ذلك لأنه أتيح لها ما لم يتح لأحد ، فلقد تولاها في طفولتها شيخ المسلمين
وأفضلهم ؛ أبوها الصدّيق ، ورعاها في شبابها خاتم الرسل وأكرم البشر زوجها
رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجمعت من العلم والفضل والبيان ما لم تجمع
مثله امرأة أخرى.
كانت امرأة كاملة الأنوثة ، تؤنس الزوج ؛ وترضي العشير . وكانت عالمة ،
واسعة العلم ، تعلّم العلماء ، وتفتي المفتين . وكانت بليغة بارعة البيان
، تبذُّ الخطباء ، وتُزري باللُّسن المقاويل . وكانت لقوة شخصيتها ؛ زعيمة
في كل شيء : في العلم ، وفي المجتمع ، وفي السياسة ،وفي الحرب .أما
منزلتها في الاسلام فهي أعلى منازل التقديس ، ولكن ليس في الاسلام تقديس
لأحد يعلو به عن منزلة البشر ، أو يمنحه صفات الألوهية ، أو يعطيه العصمة
المطلقة ، أو يرفعه عن أن تقال في نقده كلمة الحق .
فهي أفضل امرأة في الاسلام بعد خديجة وفاطمة ، أما خديجة فلأنّ لها مزايا
قلّما اجتمعت لامرأة ؛ لها عقل لا توازيه عقول المفكرين من الرجال ، ولها
رأي ومنزلة ، وهي أول من رعى هذا الدين لما كان نبتة ضعيفة، وماتت قبل أن
تشهد كيف صارت هذه النبتة دوحة باسقة ، امتدّت في المكان حتى أظلت الدنيا
. وامتدت في الزمان حتى لامست فروع أغصانها حدود الخلود . أحبَّت محمدا
صلى الله عليه وسلم ؛ وأخلصت له ، وكانت له زوجا خير زوج ، وكانت له مثل
الأم ، وكانت له درعا من سهام الحياة ....أما فاطمة فلأنها على نادر
سجاياها وعظيم مزاياها بضعة من رسول الله عليه الصلاة والسلام ، وحسبها
ذلك فضلا على النساء .
ولقد عدَّ الزركشي أربعين منقبة لعائشة رضي الله عنها لم تكن لغيرها
...تزوج الرسول صلى الله عليه وسلم نساءه كبيرات ثيّبات ( زواج مصلحة
سياسية أو إدارية أو تعليمية ؛ لا كما يقول الجاهلون ) ، وتزوجها بكرا ،
وكانت أحبَّهنَّ اليه وآثرهن عليه . اختار الإقامة عندها لما مرض ، وتوفي
بين سَحْرها ونَحْرها ، ودفن في بيتها ، وكان ينزل عليه الوحي وهو معها ،
وكان برّا بها ، قام لها لما جاء الحبشة يلعبون بحرابهم في المسجد ، فوضعت
خدّها على كتفه لتنظر اليهم حتى اكتفت ، وسابقها مرتين ؛ فسبقته أولا ثمّ
لما سمنت وركبها اللحم سبقها ، وقال لها : هذه بتلك .
ولما دخل عليها أبو بكر ، وهي تقول للنبي صلى الله عليه وسلم شيئا مما
تقوله الزوجات عند الغضب ؛ همَّ بضربها فحماها الرسول منه ، فلما خرج قال
لها مباسطا : أرأيت كيف حميتك من الرجل ؟!
كذلك كانت معاملته صلى الله عليه وسلم لأهله ..معاملة إيناس وبرِّ وانبساط
، لا كما يظن بعض الرجال ؛ يحسبون من الرجولة أن يبقى الرجل في بيته عابسا
باسرا مقطّبا وأن يأمر زوجته أمرا عسكريا ، وأن يبطش بها بطش الطغاة ؛ كلا
...ما هكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بهذا أمر الاسلام ...
قال صلى الله عليه وسلم : ((خيركم خيركم لأهله ، وأنا خيركم لأهلي )).
ومن برّه بها أن فارسيا دعاه الى وليمة(قبل أن يضرب الحجاب على زوجات
الرسول عليه الصلاة والسلام) ،فقال الرسول : وهذه معي ؟((يقصد عائشة) قال
: لا...وعاد فدعاه، فقال : وهذه معي ؟ قال : لا....فدعاه الثالثة ؛ فقال :
وهذه معي ؟ قال : نعم ، فانظروا إلى هذه السماحة من الرسول صلى الله عليه
وسلم . وهذه الصراحة من الرجل ، وقيسوهما بما تعرفون من أحوال الناس اليوم
. ولما نزلت آية تخيير زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الحرية
والانطلاق فيطلقهنّ رسول الله ؛ وبين البقاء عنده ، بلغ من حرص الرسول
عليها أن قال : لا تبادريني بالجواب ؛ حتى تستأمري أبويك ، خشية أن تسرع
فتختار الدنيا ؛ فقالت : أفيك أستأمر ؟...واختارت رسول الله صلى الله عليه
وسلم وتبعتها بقية أمهات المؤمنين .
أما علمها فقد بلغت فيه الغاية ،حتى قال أبو موسى الأشعري : كنا أصحاب
رسول الله عليه الصلاة والسلام ؛ اذا أشكل علينا أمر سألنا عائشة رضي الله
عنها وأرضاها .
وكانت بلاغتها تعادل علمها . قال الأحنف : سمعت خطب أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي والخلفاء الى يومي هذا ، فما سمعت الكلام من فم مخلوق أفخم ولا أحسن
فيه ؛ من فم عائشة . وكانت كريمة النفس ، كريمة اليد ، صبرت مع الرسول صلى
الله عليه وسلم على الفقر والجوع ؛ حتى كانت تمر عليها الأيام الطويلة ،
وما يوقد في بيت رسول الله نار لخبز أو طبخ ، وإنما كانا يعيشان على التمر
والماء ، ولما أقبلت الدنيا على المسلمين ؛ أُتيت مرة بمئة الف وكانت
صائمة ؛ ففرقتها كلها وليس في بيتها شيء، فقالت لها مولاتها : أما استطعت
أن تشتري بدرهم لحما تفطرين عليه ؟ قالت : لو كنت ذكرتني لفعلت .
لم يزعجها الفقر ولم يبطرها الغنى ؛ لأنها لمّا عظمت نفسها صغرت عليها
الدنيا ، فما عادت تبالي إقبالها ولا إدبارها . وأطرف ما في عائشة ؛ أنها
كانت النموذج الأتمّ للمرأة ؛ في طبيعتها وفي طموحها وفي مزاياها وفي
عيوبها .
كانت خير زوجة ؛ والزواج هو عمل المرأة الأول، وإن أكبر غايات المرأة أن
تكون زوجة وأن تكون أمّا ، لا يغنيها عن ذلك شيء ولو حازت مالا يملأ الأرض
؛ ولو نالت مجدا ينطح السماء ، ولو بلغت من العلم والرئاسة ما تنقطع دونه
الأعناق ، ما أغناها ذلك كله عن الزواج ولا محا من نفسها الميل إليه ؛ ولا
الرغبة فيه .
وكانت شابة جميلة ، تشعر بشبابها وجمالها ، ومحبة الرسول لها ؛ وتتيه بذلك
على ضرَّاتها ، وتتخذ من حفصة حليفا لها عليهنَّ ، تصارعهنَّ بلسانها
ويدها . ولو خلا بيت من سخط المرأة حينا ، وخلافها حينا ، لخلا بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم ، فليجد الأزواج في ذلك سلوةََ لهم وأسوة ، فإنها
طبيعة المرأة . ولكنها كانت موقّرة لرسول الله عليه الصلاة والسلام في
رضاها وسخطها ، جاء في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال لها : إني لأعرف
رضاك من سخطك. قالت : وبمَ ؟ قال : إن رضيت قلت لا ورب محمد ؛ وإن غضبت
قلت لا ورب إبراهيم .
وكانت مدلّلة؛ والدلال طبيعة المرأة الجميلة المحبوبة ، وهو الثمرة الأولى
للجمال وللشعور بالحب ، قالت مرة لرسول الله : كيف حبك لي ؟...فقال صلى
الله عليه وسلم : كعقدة الحبل ((أي هو متين مثلها )) فكانت تسأله مرة بعد
مرة ...كيف العقدة ؟ فيقول عليه الصلاة والسلام : على حالها .
وكانت تغار والغيرة الثمرة الثانية لذلك ، ولكنها غير مقبولة ؛ تنبه الحب
ولا تقتله ، وتذكيه ولا تطفئه ، وربَّ منبّه لفرسه بضربة شدَّدها فقتلها
ومزكِِ لناره بنفخة قوّاها فأطفأها .
وكانت عالمة لأن العلم لا ينافي طبيعة المرأة ، لم يمنعها كونها أنثى من أن تكون فيه للذكور إماما.
ومن إحدى المواقف الصعبة في حياة السيدة عائشة التهمة الشنيعة التي اتّهمت
بها ، وهي أبعد عنها من الأرض عن السماء ، السماء التي نزل منها الحكم
ببراءتها بآيات نقرؤها في صلواتنا إلى يوم القيامة ، ولم تكن إلا درسا
ألقاه الله علينا في شخص أكمل امرأة وأفضلها ، ليبتعد النساء عن مواطن
الشبهات ولو كنّ تقيّات نقيّات ، وليعرفن أنه اذا اتهمت عائشة أم المؤمنين
رضي الله عنها ، فليس في الدنيا امرأة هي فوق التهم .
وبعد ؛ فلقد مرَّ على عائشة أربعة عشر قرنا ولم تعرف الدنيا امرأة مثلها ، وما أظن أنّ كثيرات مثلها ستعرفهنَّ هذه الدنيا.
رضي الله عنها وأعلى في الجنان منازلها .