لما ضاقت مكة بأفضل أهلها وخيرهم
عند الله، رسول الله صلى الله عليه وسلم واصحابه، جعل الله للمسلمين فرجاً
ومخرجاً، فأذن لهم بالهجرة إلى المدينة حيث النصرة، وقبول الحق .
وقد أرخ لهجرة المصطفى صلى الله عليه وسلم . الزهري فقال : " مكث رسول
الله صلى الله عليه وسلم بعد الحج بقية ذي الحجة , والمحرم وصفر ثم إن
مشركي قريش اجتمعوا " - يعني على قتله - وقال الحاكم : " تواترت الأخبار
أن خروجه كان يوم الاثنين ودخلوه المدينة كان يوم الاثنين " .
وقد أذن الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم بالهجرة إلى المدينة , وكان
يتردد على بيت أبي بكر كل يوم صباحاً ومساء , لا يكاد يدع ذلك , فلما أذن
له بالهجرة جاءهم ظهراً على غير عادته وهو متقنع , فأخبر أبا بكر بذلك .
واختياره وقت الظهر لأن الناس تأوي إلى بيوتها للقيلولة فراراً من الحر ,
وتقنّعه يفيد شعوره بالخطر من حوله , فقد اعتزمت قريش قتله , ولابد أنها
ستعمد إلى رصد تحركه . قال تعالى : {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو
يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين } (الأنفال 30).
مؤامرة لقتل الرسول صلى الله عليه وسلم
وقد بينت رواية ضعيفة - بسبب الإرسال - قصة اجتماع المشركين على باب الرسول صلى الله عليه وسلم وذره التراب على رؤوسهم .
كما بيّن ابن عباس حصار المشركين لبيته ابتغاء قتله , ومبيت علي رضي الله
على فراشه ولحاقه صلى الله عليه وسلم بالغار , ولما علم المشركون ذلك في
الصباح اقتصوا أثره إلى الغار فرأوا على بابه نسيج العنكبوت فتركوه . ولكن
هذه الرواية لا تصلح للاحتجاج بها وهي أجود ما روي في قصة نسيج العنكبوت
على فم الغار ، وقد ورد حديث ضعيف جداً يفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم
لما بات في غار ثور أمر الله شجرة , فنبتت في وجه الغار , وأمر حمامتين
وحشيتين , فوقعتا بفم الغار . وأن ذلك سبب صدود المشركين عن الغار . ومثل
هذه الأساطير تسربت إلى مصادر كثيرة في الحديث والسيرة . وعلى أية حال فإن
ائتمار المشركين لقتله ثابت بنص الآية فلا يبعد أن يحاصروا بيته .
في غار ثور
قالت عائشة رضي الله عنها : ( فبينما نحن يوماً جلوس في بيت أبي بكر في
نحر الظهيرة , قال قائل لأبي بكر : هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم
متقناً في ساعة لم يكن يأتينا فيها . فقال أبو بكر : فداء له أبي وأمي ,
والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر . قالت : فجاء رسول الله عليه وسلم
فاستأذن فأذن له , فدخل . فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : أخرج
من عندك . فقال أبو بكر : إنما هم أهلك بأبي أنت يا رسول الله . قال :
فإني قد أذن لي في الخروج . فقال أبو بكر : الصحابة بأبي أنت يارسول الله
. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم . قال أبو بكر : فخذ - بأبي أنت
يا رسول الله - إحدى راحلتي هاتين . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
بالثمن . قالت عائشة : فجهزناهما أحث الجهاز , وضعنا لهم سفرة في جراب
فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها , فربطت به على فم الجراب . وبذلك
سميت ذات النطاق . قالت : ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
بغار في جبل ثور , فكمنا فيه ثلاث ليال , يبيت عندهما عبد الله بن أبي بكر
- وهو غلام شاب ثقف لقن - فيدلج من عندهما بسحر , فيصبح من قريش بمكة
كبائت , فلا يسمع أمراً يكتادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين
يختلط الظلام , ويرعى عليهما عامر بن فهيرة - مولى أبي بكر - منحة من غنم
, فيريحها عليهما حتى تذهب ساعة من العشاء , فيبيتان في رسل - وهو لبن
منحتهما ورضيفهما - حتى ينعق بها عامر بن فهيرة بغلس , يفعل ذلك في كل
ليلة من تلك الليالي الثلاث . واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو
بكر رجلاً من بني الديل وهو من بني عدي بن عدي هادياً خرّيتاً قد غمس
حلفاً في العاص بن وائل السهمي - وهو على دين الكفار - فدفعا اليه
راحلتيهما , وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال براحلتيهما صبح ثلاث. )
وتشير رواية صحيحة أخرى إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ركبا ، قال : ( فانطلقا حتى أتيا الغار وهو بثور ) .
موقف علي بن أبي طالب رضي الله عنه
وثمة رواية حسنة تفيد أن الرسول صلى الله عليه وسلم انطلق إلى الغار من
بيته حيث حاصره المشركون يريدون قتله , فلبس علي رضي الله عنه ثوبه ونام
مكانه واخترق رسول الله صلى الله عليه وسلم حصار المشركين دون أن يروه ,
بعد أن أوصى علياً بأن يخبر أبا بكر أن يلحق به , فجاء أبو بكر وعليّ نائم
, وأبو بكر يحسب أنه نبي الله صلى الله عليه وسلم , قال : فقال : يا نبي
الله ..
فقال له علي : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد انطلق نحو بئر ميمون فأدركه .
قال : فانطلق أبو بكر فدخل معه الغار .
قال : وجعل علي يرمي بالحجارة , كما كان يرمي نبي الله صلى الله عليه وسلم وهو يتضور , قد لفّ رأسه في الثوب لا يخرجه , حتى أصبح .
ثم كشف عن رأسه , فقالوا : إنك للئيم ! . كان صاحبك نرميه فلا يتضوّر وأنت تتضوّر وقد استنكرنا ذلك .
لقد كان غار ثور قد تحدد منطلقاً للهجرة , وضرب الموعد مع الدليل في ذلك المكان , وكان خروج المصطفى والصديق الى الغار ليلاً .
ولا تقوى هذه الرواية على معارضة ما في الصحيح , ولكن يمكن التوفيق بينهما
, لأن رواية الصحيح ليست صريحة في ركوبهما من بيت الصديق رضي الله عنه .
فإذا افترضنا أن اصطحابهما معاً جرى من بئر ميمون أمكن التوفيق بين
الروايتين .
أبو بكر الصديق يضع ثروته في خدمة الدعوة
لقد حمل أبو بكر رضي الله عنه ثروته ليضعها تحت تصرف رسول الله صلى الله
عليه وسلم , وقد ذكرت أسماء ابنته أنها خمسة آلاف أو ستة آلاف درهم . لقد
مكث الاثنان في الغار ثلاث ليال وقد تمكن المشركون من اقتفاء أثرهم إلى
الغار حيث رأى الصديق أقدامهم فقال :" يا نبي الله , لو أن بعضهم طأطأ
بصره رآنا " . قال : ( اسكت يا أبا بكر اثنان الله ثالثهما ) .
وإلى هذا اليقين التام والتوكل الكامل تشير الآية { ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا } ( التوبة 40)
الإعلان عن مكافأة
لقد أخفقت قريش في العثور عليهما , فأعلنت عن مكافأة لمن يقتلهما أو
يأسرهما وأرّخت رواية واهية خروج النبي صلى الله عليه وسلم من الغار في
ليلة الاثنين لأربع ليال خلون من شهر ربيع الأول , وأدركتهما القيلولة ظهر
يوم الثلاثاء بقديد . وهذا التحديد يثير الشك بصحة الرواية فضلاً عن ضعف
الإسناد .لقد مضى الاثنان في الطريق الى المدينة وهما يحسان برصد المشركين
لهما . قال أبو بكر : " أخذ علينا بالرصد فخرجنا ليلاً "